الجمعة، 16 يونيو 2017

 النبى و غير المسلمين 

النبى و اليهود
محمد و اليهود
النبى و غير المسلمين




روى أبو سعيد الخدرى  –رضي الله عنه- قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالسٌ جاء يهودي فقال: يا أبا القاسم، ضرب وجهي رجل من أصحابك! فقال: «مَنْ؟» قال: رجل من الأنصار. قال: «ادْعُوهُ». فقال: «أَضَرَبْتَهُ؟» قال: سمعتُه بالسوق يحلف: والذي اصطفى موسى على البشر. قلتُ: أيْ خبيث! على محمد -صلى الله عليه وسلم؟! فأخذتني غضبة ضربت وجهه. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ»... الحديث.
وفي هذا الموقف الكثير من المعاني: فاليهودي يتحاكم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وما ذلك إلاَّ لأنه على يقين أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سيُعطيه حقَّه كاملاً، والشكوى في حدِّ ذاتها تدلُّ على أن إيذاء أحد من اليهود هو شيء غريب ومستهجن؛ ومن ثَمَّ جاء اليهودي سريعًا ليشكو هذا الذي ضربه، وعلى الفور سأله الرسول -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ؟»، فأجابه الرجل: إنه أحد الأنصار. فأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يأتوا به لمعرفة ملابسات هذا الأمر؛ حيث إن اليهودي لم يذكر إلاَّ أن الصحابي قد ضربه على وجهه، ولمَّا جاء الصحابي قصَّ ما حدث، ودون تحامل على اليهودي فيما يقوله؛ نرى أنه استفزاز من قِبَل اليهودي للمسلمين؛ فاليهودي لم يَقُلْ هذا الكلام في مكان عبادته أو في بيته؛ بل يقوله في السوق الذي يكثر فيه المسلمون؛ مما أثار غضب هذا الصحابي فضربه على وجهه، ولم يُوَجِّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- اللوم إلى اليهودي الذي جهر بما يُغضب المسلمين، وكاد أن يُحْدِث فتنة؛ ربما تُزهَق بسببها الكثير من الأرواح، مما قد يُهَدِّد أمن المدينة وسلامتها، وقد يُعتبر هذا نقضًا من هذا اليهودي لبنودٍ من المعاهدة الموقَّعة بين الطرفين، والتي تنصُّ على أن يتعاون الجميع في حفظ أمن وطنهم «المدينة»، وأنَّ لكلٍّ دينه الذي يعتنقه، ويجب على الآخرين احترامه وعدم المساس به.
لكنه -صلى الله عليه وسلم- وَجَّه نصيحةً بالغة الأهمية لكل الأطراف ألاَّ يُخَيِّروا بين الأنبياء؛ وذلك حتى يمنع الفتنة فيما بين القوم، حتى لا يتكرَّر ما حدث مرَّة أخرى.
ولو كان لليهودي أيُّ حقٍّ لردَّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليه، دون مجاملة لأحد، فإن بنود المعاهدة تنصُّ على أن النصرة للمظلوم.
لأنه -صلى الله عليه وسلم- يذهب بنفسه -في موقف آخر- إلى أحد اليهود مستشفعًا لجابر بن عبد الله بن حرام -رضي الله عنه، وهو من الصحابة الكرام الذين حضروا بيعة العقبة الثانية  في طفولته مع أبيه عبد الله بن حرام  -رضي الله عنه، وشهد المشاهد كلها ابتداءً من أُحُد أو التي بعدها، يذهب مستمهلاً اليهودي، ليُؤَجِّل سداد الدَّيْن، ولمَّا أبى اليهودي قبول الشفاعة كان لا بُدَّ من السداد، فما دام هناك حقٌّ فلا بُدَّ أن يُردَّ إلى أهله، يروي جابر بن عبد الله –رضي الله عنه- فيقول: كان بالمدينة يهوديٌّ، وكان يسلفني في تمري إلى الجِداد-وكانت لجابرٍ الأرض الَّتي بطريق رومة- فجلستُ، فخلا عامًا، فجاءني اليهوديُّ عند الجِداد، ولم أجدَّ منها شيئًا، فجعلتُ أستنظره إلى قابلٍ فيأبى، فأُخبر بذلك النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم، فقال لأصحابه: «امْشُوا نَسْتَنْظِرْ لِجَابِرٍ مِنَ الْيَهُودِيِّ».
فجاءوني في نخلي، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يُكلِّم اليهوديَّ، فيقول: أبا القاسم، لا أنظره.
فلمَّا رأى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك قام فطاف في النخل، ثمَّ جاءه فكلَّمه فأبى، فقمتُ فجئتُ بقليل رطبٍ فوضعته بين يدي النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فأكل ثمَّ قال: «أَيْنَ عَرِيشُكَ يَا جَابِرُ؟» فأخبرتُه، فقال: «افْرُشْ لِي فِيهِ». فَفَرَشْتُهُ، فدخل فرقد ثمَّ استيقظ، فجئتُه بقبضةٍ أخرى، فأكل منها ثمَّ قام فكلَّم اليهوديَّ فأبى عليه، فقام في الرِّطاب في النَّخل الثَّانية ثمَّ قال: «يَا جَابِرُ، جُدَّ  وَاقْضِ». فوقف في الجداد فجددت منها ما قضيته، وفضل منه، فخرجت حتى جئت النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فبشَّرته، فقال: «أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ».
فهذه قصة عجيبة يستدين فيها جابر بن عبد الله –رضي الله عنه- من يهودي، فيأتي ميعاد سداد الدين، وليس مع جابر بن عبد الله ما يقضي به دَينه، فجعل يطلب من اليهودي أن يُؤَخِّره عامًا حتى يستطيع السداد -وكان جابر بن عبد الله ب من الفقراء المدينين- لكنَّ اليهودي أَبَى وأصرَّ على أن يأخذ دَينه في موعده، فأخبر جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بالأمر، وطلب منه أن يتوسَّط بينه وبين اليهودي، وقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالفعل، بل أخذ معه بعضًا من أصحابه، وذهب إلى اليهودي يستشفع لجابر، فيقول جابر –رضي الله عنه: فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُكَلِّم اليهودي. أي أنه أكثر في الكلام والاستشفاع عنده، لكنَّ اليهودي رفض بكل وسيلة، وكان مُصِرًّا على قوله: أبا القاسم؛ لا أنظره.
هذا موقف يقع فيه أحد الأصدقاء المُقَرَّبِينَ إلى قلب مَنْ يحكم المدينة المنورة بكاملها في أزمة مع أحد رعايا هذه المدينة وهو اليهودي، إنه يُريد تأجيل سداد الدين؛ وليس المماطلة فيه أو التغاضي عنه، والرسول -صلى الله عليه وسلم- بنفسه يستشفع له، ولكنَّ اليهودي يرفض، ومع ذلك لم يُجبر زعيم الأُمَّة الإسلامية وقائد المسلمين ورسول ربِّ العالمين -صلى الله عليه وسلم- ذلك اليهوديَّ أو يُكْرِهْهُ على قبول استشفاعه!
لم ينظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هنا إلى صورته التي قد يستضعفها المراقبون والمحلِّلُون للموقف، ولم ينظر إلى حبِّه لجابر بن عبد الله وقُرْبِهِ من قلبه، ولم ينظر إلى تاريخ اليهود العدائي مع المسلمين؛ لم ينظر إلى كل هذه الاعتبارات ولا إلى غيرها، إنما نظر فقط إلى إقامة العدل في أسمى صوره.
إن الحقَّ مع اليهودي، والسداد واجب، والاستشفاع مرفوض من صاحب الحقِّ، فليكن السداد، وليكن الإنصاف لليهودي غير المسلم، ولو كان من صحابي جليل وابن صحابيٍّ جليلٍ.
إنَّ هذا هو الإسلام حقًّا..
لم يكن هذا تَكَلُّفًا من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا تَجَمُّلاً منه؛ إنما كان التطبيق الطبيعي لقواعد الدين؛ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء: 135].
إن الشفقة على جابر لفقره لم تكن مبرِّرًا للحكم له ضدَّ اليهودي؛ يقول الشوكاني   في فتح القدير في تفسير هذه الآية {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا}: «إن يكن المشهود عليه غنيًّا فلا يُراعى لأجل غناه؛ استجلابًا لنفعه أو استدفاعًا لضره؛ فيترك الشهادة عليه، أو فقيرًا فلا يُراعَى لأجل فقره؛ رحمةً له وإشفاقًا عليه، فيترك الشهادة عليه».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق